كتبت .. سها البغدادي
لم تعد الحروب في عالمنا العربي تُخاض على حدود الجغرافيا فقط، بل أصبحت تُخاض في الأزقة والقرى، في المدن والجبال، وفي عقول الشباب قبل ميادين القتال.
فأخطر ما تواجهه الدول العربية اليوم ليس جيوشًا نظامية معلنة، بل ميليشيات فوضوية تُقاتل بلا عقيدة وطنية ولا التزام عسكري، وتتحرك بلا منطق ولا حدود.
الفرق بين الجيش النظامي والميليشيا يشبه الفرق بين عدو تعرفه وعدو لا ترى له وجهًا ولا راية.
الجيش النظامي يُواجه في معركة واضحة المعالم، يخضع لقوانين الحرب ويُحاسب وفق اتفاقيات دولية، بينما الميليشيات تتغذى على الفوضى، وتعيش على الدم، وتزدهر حين تنهار الدول.
الميليشيات لا تبحث عن نصر عسكري بقدر ما تسعى إلى إضعاف هيبة الدولة، وإشعال الصراعات الطائفية والعرقية، واستنزاف الجيوش الوطنية من الداخل.
هي أدوات حرب بالوكالة، تُدار من عواصم خفية، تُسلّحها أيادٍ لا تريد استقرارًا للعالم العربي، بل تقسيمه إلى دويلات منهكة متناحرة.
من العراق إلى سوريا، ومن ليبيا إلى اليمن، ومن السودان إلى لبنان، تكررت المشاهد ذاتها:
ميليشيا تُرفع باسم "المقاومة" أو "الدين" أو "الحرية"، ثم تتحول تدريجيًا إلى دولة داخل الدولة، تفرض سلاحها على مؤسسات الشرعية، وتتحكم في القرار السياسي والاقتصادي، لتغدو هي الحاكم الفعلي بينما يتلاشى صوت الدولة القومية.
وهنا تكمن الخطورة الحقيقية على الأمن القومي العربي، لأن هذه الميليشيات لا تمثل خطرًا عسكريًا فقط، بل خطرًا نفسيًا واجتماعيًا وفكريًا، إذ تزرع الخوف والشك والانقسام بين أبناء الوطن الواحد، وتستبدل فكرة الوطن بفكرة "الولاء للجماعة".
لقد أثبتت التجارب أن مواجهة الميليشيات أصعب من مواجهة الجيوش؛
فالجيوش تُهزم في معركة وتنتهي، أما الميليشيات فتنفجر في ألف خلية سرية، وتعود بأسماء جديدة، وتتحالف مع كل عدو يتقاطع معها في المصلحة.
من هنا، فإن حماية الأمن القومي العربي لا تكون فقط بتقوية الجيوش، بل أيضًا بتعزيز وحدة الشعوب، وتحصين الوعي، ومواجهة خطاب التطرف والانقسام الذي يُعدّ الوقود الحقيقي لتلك الجماعات.
إن الحرب ضد الميليشيات ليست حرب سلاح فقط، بل حرب وعي؛
فالميليشيا التي تفشل في السيطرة على الأرض تحاول السيطرة على العقول، وتلك معركة لا تقل خطورة عن أي معركة ميدانية.
اليوم، على العرب أن يدركوا أن العدو الحقيقي ليس فقط من يعبر الحدود، بل من يزرع الشقاق داخل البيت العربي نفسه.
وحين تتوحد الإرادة السياسية والإعلامية والفكرية في مواجهة هذه الكيانات، يمكن للأمة أن تستعيد أمنها القومي، وتسترجع هيبتها المفقودة.
تعليقات
إرسال تعليق